12 آذار/مارس 2021

إليوت هاريس هو كبير الاقتصاديين في الأمم المتحدة. في مقابلة أجريت معه مؤخرًا، تحدث عن تغيير رائد في المحاسبة الوطنية يتضمن، لأول مرة، تثمين الطبيعة بالإضافة إلى تدابير اقتصادية تقليدية بدرجة أكبر. يوفر نظام المحاسبة البيئية الاقتصادية - بعبارة أخرى، المحاسبة الإيكولوجية - نطاقًا كبيرًا لاتخاذ قرارات مستنيرة وجيدة بشأن الاقتصادات والعمل المناخي وحماية التنوع البيولوجي. فيما يلي مقتطفات من المقابلة، بتصرف.

 

 
 

 

ما فائدة تثمين الطبيعة؟

إذا حددنا قيمة للطبيعة، سنتمكن من قياسها، وإذا قمنا بقياسها، سنتمكن من إدارتها. وإذا قمنا بإدارة القيمة، فإننا سنتجنب إتلافها. هذه هي المشكلة التي نعاني منها منذ مائة عام. وبما أننا لم نأخذ هذه القيمة في الحسبان، فقد تعاملنا مع الطبيعة كما لو كانت مجانية وغير محدودة. لقد استغللناها دون أن ندرك مقدار القيمة التي كنا نخسرها.

لطالما قسنا التقدم الاقتصادي بالسلع والخدمات التي ننتجها ونستهلكها، ما نسميه الناتج المحلي الإجمالي. لم نفعل ذلك قط بالنسبة للطبيعة. ومع ذلك، فإن الطبيعة تقدم خدمات ذات قيمة، وعلينا أن نحسب هذه القيمة لقياس تقدمنا الاقتصادي.

المحاسبة الطبيعية والاقتصادية تمكننا من رؤية كيف يؤثر نشاطنا الاقتصادي على الطبيعة، وكيف يؤثر وجود الطبيعة علينا كمجتمع وكصنف، وكيف يُمْكن تغيير أنشطتنا لنتمكن من تحقيق الازدهار دون الإضرار بالطبيعة أو تدميرها في هذه العملية.

 

لما الآن؟

لقد أصبحت عواقب تجاهل الطبيعة جليّة أكثر فأكثر، إذ نشاهد ارتفاع وتيرة الكوارث المرتبطة بالمناخ. تؤثر تغيرات الطقس على الإنتاجية الزراعية، وبدأت الأمراض الحيوانية المصدر مثل كوفيد-19 تؤثر علينا أكثر فأكثر.

لدينا الآن نافذة من الفرص لمعالجة هذه المشاكل ولكنها آخذة في الانغلاق بسرعة. وإذا تمكنا من فهم نطاق هذه المشاكل بشكل أفضل، ومقدار الضرر الذي نحدثه، يمكننا التصرف بطريقة مدروسة وعقلانية. وإذا انتظرنا حتى نكون على شفا كارثة، فسنضطر إلى التكيف بطريقة سريعة ومؤلمة للغاية.

 

 

كيف تبدو المحاسبة الطبيعية على أرض الواقع؟ ماذا تقيس؟

يمكننا أن ننظر إلى الغابة وندرك أننا إذا قطعنا أشجارها سنتمكن من بيع الأخشاب والحصول على قيمة. ولكن يمكننا أيضا أن ننظر إلى الغابة كمكان قد نرغب في الذهاب إليه للتنزه أو لإقامة مخيم. وذلك له قيمة، مع أننا لا نستطيع تحديد تلك القيمة في السوق.  

الغابة السليمة تقدم الكثير من الخدمات الأخرى. إنها تساعد على تنظيم المناخ والدورة الهيدرولوجية، وتمتص مياه الأمطار، وتمنع تآكل التربة، وتصفي المياه. نحن نستفيد من كل هذه الخدمات، ولا نراها، ولا نقيسها الآن، لكنها مهمة جدًا. وعندما نقطع أشجار تلك الغابة من أجل الخشب، فإننا نفقد تلك الخدمات.  

إذا قمنا بقياس هذه الخدمات، سنتخذ قرارا سليما فيما كان قطع الغابة وبيع الأخشاب أفضل، أو أن الحفاظ على قدرة الغابة على الاستمرار في تقديم خدمات النظام البيئي التي نعتمد عليها أفضل.  

 

هل هناك مخاطر من تحديد ثمن الطبيعة؟

نحن لا نحاول تحديد ثمن الطبيعة، ولا نطرح الأشجار والأسماك والمياه النظيفة في الأسواق لكي تباع وتشترى، لكننا نحاول تحديد قيمة الطبيعة حتى نتمكن من إدراج هذه القيمة ضمن أنشطتنا الاقتصادية الشاملة، ونحاول فهم تأثيرنا على الطبيعة. يمكننا التفكير في منتج خام للنظم البيئية يجعلنا ندرك بأن الطبيعة تنتج قيمة نريد امتلاكها.

 

هل سيؤدي هذا النوع من المحاسبة إلى جعل بعض البلدان أكثر ثراءً - وبعضها الآخر أكثر فقرًا؟

قد تصير الأمور إلى هذا الاتجاه أو ذاك. يتوقف الأمر على كيفية إدارة الثروات. إذا كان لدى بلد ما، على سبيل المثال، مجموعة من الغابات السليمة ويشرع في قطع كل تلك الغابات، فإنه سيحقق مكاسب نقدية من بيع الخشب. لكنه سيخسر خسارة كبيرة جدًا في خدمات النظام البيئي. فقد ينتهي به الأمر بمرور الوقت إلى حال أسوأ. وقد يجد أن مخزونه الإجمالي من رأس المال، الذي يساهم في ازدهاره المستقبلي، قد انخفض بسبب استنفاد رأس ماله الطبيعي.

وبالمقابل، إذا اعتنينا بصحة غاباتنا، سترتفع قيمة الفوائد التي نجنيها من الطبيعة. إن إدراكنا للقيمة يسمح لنا بإدارتها بشكل أفضل، وزيادة الفوائد التي نستمدها منها.

إذا نظرنا في العلاقات بين الدول، سنرى، على سبيل المثال، من خلال التجارة، أن بلد ما يستنزف رأس ماله الطبيعي، ويقلل من الفوائد التي يكتسبها من الطبيعة، بينما بلدًا آخر يستطيع الحفاظ على قيمته باستيراد الموارد. قد يساعدنا هذا التفكير في إدارة مثل هذه التبادلات بشكل أكثر فاعلية وعقلانية من أجل المنفعة المتبادلة لجميع البلدان.

 

كيف يمكن أن توفر المحاسبة الطبيعية رؤى جديدة بشأن أوجه اللامساواة بين الناس؟

سيؤثر أي نشاط له عواقب سلبية على البيئة على مجموعات مختلفة من الناس بطرق مختلفة. ومن شأن ذلك أن يفاقم التفاوتات. بالنسبة لشخص يكسب رزقه من التفاعل مع الطبيعة، كالمزارع مثلاً، فإن تدهور البيئة سيؤثر على هذا الشخص بشكل مباشر وعميق أكثر بكثير مما قد يؤثر على الشخص الذي لا يعتمد على الطبيعة في معيشته.

ستتيح مراعاة الطبيعة تحديد من يستفيد من الخدمات التي تقدمها الطبيعة وكيف يستفيد، ومن سيعاني وكيف سيعاني إذا لم تَعد هذه الخدمات متاحة. كما أن مراعاة الطبيعة تجعلنا ندرك كيف نستطيع ببذل الجهود للحفاظ على الطبيعة وحمايتها، أن نحافظ في الواقع على سبل عيش مئات الملايين من الناس الذين يعتمدون على الطبيعة. كل هذا سيمكننا من البدء في صياغة سياسات أكثر استنارة يمكن أن تفيد المجموعات المحرومة.

 

 

كيف يمكن للمحاسبة الطبيعية أن تدعم حماية التنوع البيولوجي بشكل أفضل؟

إن أحد الأسباب التي تجعلنا نؤكد على أهمية العمل المناخي هو أن طبيعة المشكلة واضحة. نستطيع احتساب مقدار الاحترار العالمي الذي يمكننا التعايش معه قبل أن نتعرض حقًا لمشاكل يتعذر التغلب عليها.

هذا لا ينطبق على التنوع البيولوجي. يختلف التنوع البيولوجي في أحد الأنظمة البيئية تمامًا عن التنوع البيولوجي في نظام آخر. لذلك من الصعب جدًا وضع رقم واحد يُمْكن من خلاله تعبئة العالم بأسره.

إذا قامت كل دولة بقياس أنظمتها البيئية والقيمة التي تستمدها من هذه الأنظمة، ستكون الاختلافات بين أنواع الأنظمة البيئية أقل أهمية بكثير. فالأهم هو القيمة التي يستمدها البشر، وفهم ما يتعين علينا القيام به لحمايتها. سيُعطي ذلك دفعة كبيرة لبرنامج التنوع البيولوجي العالمي.

 

يدرك الكثير من الناس أن التغيرات المناخية تمثل خطرًا كبيرًا وأن الطبيعة تتعرض لضغوط. لكن الحلول تبدو شاقة ومكلفة.

يجب علينا تحسين إدارة العالم الطبيعي الذي يحيط بنا، وإلا سندمر أسس حياتنا على هذا الكوكب. يكلفنا إهمال الطبيعة خسائر تقدر بآلاف المليارات، وستستمر هذه التكاليف لعقود. نحتاج فقط إلى إلقاء نظرة على ما يحدث في ولاية تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب موجة البرد والأضرار الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي تسببت فيها أنماط الطقس الغريبة. على الصعيد العالمي، تحدث 6.5 مليون حالة وفاة مبكرة كل عام بسبب تلوث الهواء، و3 ملايين من هذه الحالات أطفال. ونتحمل هذه التكلفة كل عام دون تعجب ولا اهتمام.

كل عمل نقوم به له كلفة. فعلينا أن نرى الأمور لا من ناحية الكلفة فقط ولكن من ناحية الاستثمار، هذا أهم بكثير. لن يشتكي أحد إذا استثمرنا في مدرسة أو مستشفى. سيرى الأمر على أنه استثمار في الصحة، وفي مجتمعنا، وفي مستقبلنا. فالأمر كذلك بالنسبة للاستثمار في الطبيعة السليمة. هذا الاستثمار لا يعد إلا جزءًا بسيطًا من التكلفة الحقيقية التي سندفعها إذا تركنا مناخنا يخرج عن السيطرة، وإذا تركنا التنوع البيولوجي يتدهور دون توقف.

 

بالنسبة للعديد من البلدان النامية، تشتد أزمة الديون العامة منذ العديد من السنوات، وقد تزداد سوءًا الآن بسبب الوباء. ما رأيك في المقترحات الأخيرة لتوسيع نطاق المقايضة لتحويل الديون إلى التزام بصون البيئة أو مبادلة الديون مقابل التكيف مع المناخ؟

هذه الآليات موجودة منذ فترة. وقد تم إنجاز بعضها بنجاح كبير. لكننا نشارف على أزمة على الجانبين. على جانب الديون، كما على جانب الطبيعة والمناخ. هناك إمكانات هائلة للعمل الذي يجمع بين الجانبين، خاصة في البلدان التي قد لا تمتلك الموارد لتطبيق أنواع البرامج المتعلقة بالطبيعة والمناخ التي نحتاج إليها. بشكل عام، ينبغي البحث بنشاط أكبر عن حلول لإحراز تقدم على أكثر من جبهة في الوقت نفسه.

 

ما الشيء الأكثر أهمية الذي يحتاج الناس في كل مكان إلى فهمه حول المحاسبة الطبيعية؟

إذا تركنا الاقتصاد يسيطر على كل شيء، سنتوجه نحو الكارثة بسرعة. بإمكاننا تغيير الأمور، هذا الأمر ليس بالسهل، ولكن نستطيع القيام به. إن أفضل طريقة لاتخاذ الخيارات الصحيحة هي الحصول على المعلومات.

وأهم شيء هو عدم ترك المجال في سياق المناقشة حول حماية التنوع البيولوجي أو العمل المناخي تحت سيطرة أصحاب الأصوات العالية الذين يريدون الحفاظ على الوضع الراهن من أحل مصالحهم الخاصة، الذين يزعمون أن فقدان التنوع البيولوجي ليس مشكلة - فهم لا يروُون القصة كما هي.

يجب علينا تقديم الأدلة وأن نظهر للناس ما يحدث بالفعل، كما يجب علينا أن نقنعهم بأننا نستطيع إصلاح الوضع لأننا نمتلك الأدوات اللازمة والمعلومات لاستخدام هذه الأدوات على أفضل وجه.

 

هل المحاسبة البيئية ستجعل مزيدا من خبراء الاقتصاد ينظرون أبعد من الناتج المحلي الإجمالي؟

لطالما كان هناك دعاة يؤكدون أن في الحياة أشياء أهمّ من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن الأمور آخذة في التغير بشكل سريع. قبل خمس سنوات، كان الاستثمار القائم على البيئة والمسائل الاجتماعية والحوكمة مجالا ضيقا تنشط فيه بعض الشركات المتخصصة في بورصة وول ستريت. الآن، أكبر المستثمرين يهتمون به. وأصبحت القضايا البيئية والاجتماعية مركزية في نماذج الأعمال التي تستخدمها الشركات والتي يبحث عنها المستثمرون. تتساءل البنوك المركزية والمنظمون الماليون عن نوع المعلومات التي يجب على الشركات والمؤسسات المالية الإبلاغ عنها لإعطاء فكرة واضحة عن موقفها من البيئة والمسائل الاجتماعية والحوكمة.

كل هذا يشير إلى أن المحاسبة البيئية ستكتسي أهمية أكبر في المستقبل. أعتقد أننا سنشهد تغييرًا سريعًا للغاية في المهنة الاقتصادية حيث يتعين عليها التكيف والالتزام بالواقع المحيط بها. لا يمكننا الاستمرار في التركيز على الناتج المحلي الإجمالي إذا لم يستمع أحد إلينا.