موجعة للقلب هي صور تالكوبان، الفلبين، في أعقاب إعصار هايان أو في الواقع صور أي مستوطنة بشرية حلت بها كارثة مدمرة. ففي غضون يوم واحد تصير أحياء بأكملها أراضي قفر. وتستحيل البيوت إلى أنقاض. ومن ثم فإحدى المهام الأساسية في سياق إنقاذ الأرواح وتخفيف معاناة السكان المتضررين ألا وهي مهمة إيواء ملايين من البشر باتوا فجأة بلا مأوى وعرضة لكل عارض، قد تبدو مهمة جسيمة حتى بالنسبة لأكثر المُنقذين تفاؤلا.
وصلت إلى مانيلا في شباط/فبراير 2014 بصفتي موظفة لإعداد التقارير لدى مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. كنت جزءا من الموجة الثانية من موظفي التدخل السريع الذين تم إيفادهم إلى الفلبين تصديا لإعصار هايان الذي عصف بالمنطقة الوسطى منها في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 وأودى بحياة 300 6 نسمة وشرَّد 4 ملايين شخص في بعض من أفقر مناطق ذلك البلد. كان أشد الأعاصير فتكا في تاريخ الفلبين ولا تزال درجة قوته لدى الالتقاء باليابسة هي أقوى درجة مسجلة. كانت هذه هي أول تجربة إنسانية مباشرة لي وكنت أتوق إلى مشاهدة الكيفية التي يمكن بها مساعدة الناس في أوقات الأزمة من خلال التعاون بين الجهات الفاعلة الدولية والوطنية.
وعندما وصلت كان قد تم بالفعل الاضطلاع بعملية شاملة وناجحة إلى حد كبير تصديا للكارثة أُنشئت في إطارها على وجه السرعة آليات للاستجابة في حالات الطوارئ ممولة تمويلا جيدا وجرى التنسيق بصورة ممتازة بين العنصرين المدني والعسكري وتم تفادي أي ثغرات خطيرة في التغطية. ووردت المساعدات من الأمم المتحدة وشركائها وحكومة الفلبين والقطاع الخاص والمجتمع المدني وفلبينيي المهجر(1). وكان لكل من تلك الجهات خططه وأولوياته لكن الأهداف المشتركة شملت دعم عملية إنعاش المجتمعات والحكومات المحلية وإعادة البناء بشكل تتوافر فيه بقدر أكبر مقومات السلامة وتعزيز القدرة على الصمود. وشكَّل توفير المأوى - على نحو يساعد السكان المتضررين على التعافي ذاتيا - جزءا لا يتجزأ من الجهود الرامية إلى تحقيق هذه الأهداف.
وخلال مرحلة الطوارئ، وفرت منظمات العمل الإنساني لما يربو على 000 500 أسرة معيشية ملاجئ للإيواء العاجل وتلقت الأسر المتبقية المساعدة من الحكومة(2) بطرق منها نقلها إلى مراكز إجلاء أو إلى مساكن جماعية. إلا أنه خلال فترة وجودي في البلد، شاملة فترة الأساس المرجعية ألا وهي الستة أشهر اللاحقة على الكارثة، تباطأ إيقاع المساعدات الخاصة بالإيواء، مما أدى إلى تزايد مشاعر الإحباط لدى الجماعات المحلية المتضررة. وظهرت تحديات لم توضع في الحسبان عند إعداد برامج الاستجابة في حالات الطوارئ ولم يكن من السهل تجاوزها. فلقد شعرت الأسر المعيشية بمحدودية قدرتها على التعافي ذاتيا(3). وظل الاحتياج إلى المساعدة قائما ولكن بمواصفات تلائم بقدر أكبر الاحتياجات مما استلزم فهما أعمق والعمل مع السلطات الوطنية والمحلية ومن بقوا في مراكز الإيواء العاجل.
ولكن ما الذي تسبب في هذه الحالة؟ الواقع أنه أمر يمكن إلى حد ما تفسيره. فتخطيط برامج الإيواء وتنفيذها يمكن أن يستغرقا وقتا أطول(4). ولقد عانت أنشطة الاستجابة في هذا القطاع نقصا مزمنا في التمويل؛ ذلك أنه بعد سبعة أشهر من هبوب إعصار هايان لم تكن تلك المجموعة القطاعية قد تلقت من التمويل اللازم سوى 42 في المائة فقط وكانت في حاجة إلى مبلغ إضافي قدره 178 مليون دولار(5). ولقد اكتنفت مسألة السكن والأرض والحيازة تعقيدات من بينها بطء اتخاذ قرار بشأن المنطقة الممتدة على الساحل بطول 40 مترا التي اعتبرتها الحكومة منطقة ”غير مأمونة“ مُنع فيها إعادة البناء، في بادئ الأمر، وبمرور الوقت أُذِن بالبناء في جزء منها استنادا إلى نتائج عملية مسح مناطق الخطر ووفقا لتقدير الحكومة المحلية. ومن بين المسائل التي كانت مثار قلق في هذا الصدد مسألة تحديد الأراضي التي يمكن أن ينتقل إليها ويبني فيها المقيمون في المساكن الجماعية أو من كانوا يعيشون في المنطقة غير المأمونة. ثم تلتها مسألة ما إذا كانت المواقع التي يمكن أن تنتقل إليها الأسر النازحة تتوافر فيها إمكانات كسب الرزق من عدمه(6).
وفي الاجتماعات الأسبوعية التي كانت تعقد بغرض التنسيق فيما بين المجموعات القطاعية والفريق القطري للعمل الإنساني تبدت رغبة قوية في التحول إلى مرحلة التعافي ولكن التركيز انصب على تحويل آلية التنسيق وليس محتوى البرامج(7). فتحوّل من هذا القبيل يستلزم من الشركاء إمعان النظر في الاحتياجات للوقوف على ما لُبيَ وما لم يُلب منها وإبداء استعداد لتحويل الأموال والموارد تبعا لذلك، الأمر الذي يشكل في حد ذاته تحديا بالنظر إلى أن التمويل يرتهن في جانب كبير منه بالولايات أو الشراكات وغالبا ما تكون ممارسات الجهات المانحة غير مرنة بما يكفي للتكيف مع الاحتياجات والسياقات المستجدة(8).
وكانت هناك اختلافات في فهم مراحل الاستجابة في حالات الطوارئ والتعافي السريع والحدود بينهما. فمثلا، كان المجتمع الدولي ينحو إلى التركيز على أنشطة الاستجابة في حالات الطوارئ في فترة الثلاثة إلى الستة أشهر الأولى بينما كانت الفلبين ترى ضرورة أن تكون مرحلة التصدي للكارثة قصيرة وتحبذ التحول سريعا إلى التعافي. وتبدى أيضا نوع من التشكك إزاء قدرات الحكومات الموازية والجداول الزمنية التي تخلق إمكانية تداخل أنشطة الاستجابة. وفي هذا الصدد أيضا، كان للافتقار إلى برامج قابلة للتكييف أثره في منع ما كان يمكن أن يوجه مسار التنسيق بين الجهات الفاعلة الدولية إلى مرحلة التعافي لا سيما في المواقع التي يوجد فيها وجود حكومي مختص أو موظفون وطنيون يمكن تعظيم الاستفادة منهم(9).
والواقع أن السياق الفلبيني هو الذي سلط الضوء على تباطؤ الزخم وعلى الكيفية التي كان يمكن بها اجتناب ذلك لو مُنحت أولوية أكبر للعمل مع السلطات المحلية والوطنية. ففي الفلبين عادة ما يُتبع نهج التعافي الذاتي في التعامل مع توابع الكوارث وإعصار هايان لم يكن استثناء. فعلى الرغم من أن شركاء العمل الإنساني أداروا ظهورهم لقضايا هامة من قبيل إدارة مراكز النزوح والدفاع عن حقوق نزلائها عاد معظم السكان المتضررين إلى ديارهم وفي أحيان كثيرة في غضون أيام من وقوع الكارثة وأعادوا بناء، ولو على الأقل، أماكن إيواء مؤقتة(10). وبعد ذلك صارت حاجتهم هي الحصول على المواد عالية الجودة لإعادة بناء منازلهم بطريقة يمكن أن تكفل صمودها في مواجهة الأخطار مستقبلا.
ولقد جرى التركيز بالفعل في جهود الاستجابة الدولية على التعافي الذاتي ولكن ربما لم يكن ذلك بالقدر الكبير الكافي أو بوتيرة سريعة بما يكفي. فمثلا، في حزيران/يونيه 2014 أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بأن الشركاء في المجموعة المعنية بقطاع الإيواء أمدوا زهاء 000 570 أسرة معيشية (ما يقرب من 3 ملايين شخص) بخيام وأقمشة عازلة للمياه مقابل تزويد ما لا يتجاوز عدده 000 162 أسرة معيشية (ما يقرب من 000 842 شخص) بالدعم لأغراض التعافي الذاتي في هذا الصدد حيث قُدمت لها حلول دائمة لبناء الأسطح وأدوات ومواد بناء لإصلاح منازلها(11).
ومن المفروض أساسا أن التعاون المستمر بين الجهات الفاعلة الدولية والوطنية والمحلية يؤدي إلى مزيد من الاتساق في جهود الشركاء في مجال العمل الإنساني؛ ويزيد الوعي بالاحتياجات الفعلية والاستراتيجيات الطويلة الأجل؛ ويحد من الازدواجية في ما يقدم من مساعدات؛ ويساعد على كفالة الربط بين المساعدة في مجال الإيواء وبناء مساكن أشد صلابة.
ومع ذلك يجوز أن يُطبق مستقبلا، وفي السياق المناسب، ما شهده قطاع الإيواء في أعقاب إعصار هايان من استجابات ناجحة، ومنها التواصل مع المجتمع المحلي والخضوع للمساءلة أمام آليات السكان المتضررين؛ واستخدام التحويلات النقدية بدلا من المساعدات العينية بما يسمح للمستفيدين بشراء ما يحتاجونه من سلع مع دعم الاقتصادات المحلية في الوقت نفسه؛ والاستعانة بخبراء متخصصين يمكن أن تشمل خبراتهم المسائل المتصلة بالإيواء بل وربما المساكن والأرض والحيازة ووضع المبادئ التوجيهية المتعلقة بالإيواء في مرحلة التعافي والملصقات التي كانت رسالتها الرئيسية ”إعادة بناء مساكن أوفر أمانا“ التي اشتركت في إعدادها المجموعة القطاعية المعنية بالإيواء والحكومة والوكالات الشريكة(12).
والواقع أن حالة الإعصار هايان هي حالة يمكن التعلم منها لأسباب من أهمها أن الفلبين - وهي من أكثر بلدان العالم تعرضا لأخطار الكوارث - بلد من الشريحة الدنيا من البلدان المتوسطة الدخل لديه نظام وطني متطور لإدارة الكوارث. ولقد حظيت جهود الاستجابة بتعاطف جماهيري وتغطية إعلامية على نطاق واسع واستفادت من الصلات الطويلة الأمد مع الجهات المقدمة للمعونة وعدم حدوث كارثة كبيرة أخرى ”تستقطب“ الاهتمام ومن حكومة مضيفة تقبل بمسؤوليتها عن حماية مواطنيها(13). ومن ثم فما يهم بقدر أكبر هو النظر بمزيد من التمعن في التحديات التي ظلت ماثلة على الرغم من هذه الظروف المؤاتية.
وليست المسائل مثار القلق الوارد بيانها في هذا المقام غير مألوفة ولقد حُددت بالتفصيل في تقييمات أساليب التصدي لإعصار هايان. وتفيد نتائج أحد تلك التقييمات بأن معدل رضا المستفيدين عن المساعدة المقدمة في سياق التعافي ذاتيا في مجال الإيواء تناقص على مر الوقت(14)، وهو اتجاه يجسد أهمية العمل على كفالة أن تكون المساعدات الأولية المقدمة في إطار الإيواء العاجل قوية ومناسبة وأن تمنح الأسر الفرصة لترميم منازلها وإعادة البناء من الأساس بشكل أفضل.
ومن ثم، فمما يثلج الصدر أن يدعو الأمين العام، قبل انعقاد مؤتمر القمة العالمي للعمل الإنساني، الجهات الفاعلة الدولية إلى أن تسأل نفسها، في سياق ما بعد الكارثة، ما الذي يمكنها عمله لإضافة قيمة إلى ما يقوم به بالفعل الأشخاص والمجتمعات المحلية. فالعمل والتعاون مع السلطات الوطنية والسكان المحليين يمكن أن يربطا المعونة الدولية على نحو أوثق بقدرات السكان المضيفين ويسمحا للجهات الفاعلة بالمضي قدما صوب إحراز نتائج جماعية تحد من الحاجة والخطر وقلة المنعة. والنهج المتبع في حالات الطوارئ لا يمكن أن يصبح طريقة عمل مستدامة في الأجل الطويل بل ينبغي أن يكون ذلك هو الاستثناء حتى وإن ظلت بعض الاحتياجات إلى المساعدة والحماية قائمة(15). فعندما يتعلق الأمر بالمأوى لا تصح سوى هذه النصيحة.
الحواشي
1 - Teresa Hanley and others, “IASC Inter-agency humanitarian evaluation of the Typhoon Haiyan Response.” Prepared on behalf of the Inter-Agency Humanitarian Evaluation Steering Group (New York, United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA), October 2014), pp. v, viii. متاح على www.humanitarianresponse.info/en/programme-cycle/space/document/iasc-int....
2 - Shelter Cluster, “Response to Typhoon Haiyan (Yolanda)”, Shelter Cluster Brief (19 June 2014), p. 1. متاح على www.humanitarianresponse.info/en/operations/ philippines/document/typhoon-haiyan-yolanda-shelter-cluster-brief-19-june-2014.
3 - Philippines Shelter Cluster, “Shelter Sector Response Monitoring, Typhoon Haiyan, Philippines, 2013. Final Report: Monitoring Assessment 2”, September 2014, p. 30. متاح على www.humanitarianresponse.info/en/operations/ philippines/assessment/shelter-sector-response-monitoring-typhoon-haiyan-final-report.
4 - Ibid., p. 31.
5 - Shelter Cluster, “Response to Typhoon Haiyan”, p. 1.
6 - Hanley, “IASC Inter-Agency Humanitarian Evaluation”, p. 59.
7 - Ibid., p. 58.
8 - Report of the Secretary-General for the World Humanitarian Summit, “One Humanity: Shared Responsibility”, 2 February 2016 (A/70/709), p. 38. متاح على https://consultations.worldhumanitariansummit.org/whs_sgreport.
9 - Hanley, “IASC Inter-Agency Humanitarian Evaluation”, pp. vii–viii, 51.
10 - Ibid., pp. vi, 29, 46, 59, 71.
11 - Ibid., pp. 26–27; Shelter Cluster, “Response to Typhoon Haiyan”, p. 1.
12 - Hanley, “IASC Inter-Agency Humanitarian Evaluation”, pp. viii, ix, xiii, 57, 59; Shelter Cluster, “Response to Typhoon Haiyan”, p. 1.
13 - Hanley, “IASC Inter-Agency Humanitarian Evaluation”, pp. ix, 18, 70.
14 - Philippines Shelter Cluster, “Shelter Sector Response Monitoring”, p. 30.
15 - Report of the Secretary-General for the World Humanitarian Summit, pp. 30, 36.
وقائع الأمم المتحدة ليست سجلاً رسمياً. إنها تتشرف باستضافة كبار مسؤولي الأمم المتحدة وكذلك المساهمين البارزين من خارج منظومة الأمم المتحدة الذين لا تعبر آراءهم بالضرورة عن آراء الأمم المتحدة. وبالمثل، الحدود والأسماء المعروضة والتسميات المستخدمة في الخرائط أو المقالات، لا تعني بالضرورة موافقة أو قبول من قِبل الأمم المتحدة.