11 أيلول/سبتمبر 2017

كتب الكاتب الألماني، توماس مان، الذي هرب من الفاشية في عام 1933 أنه "ألماني جيد بدرجة كبيرة، ومرتبط كثيراً بالعادات الثقافية ولغة [بلده]"1 لكي يستطيع تقبل فكرة المنفى دون الشعور بالقلق الشديد.

اسمحوا لي أن أطرح سؤالاً مثيراً للاهتمام. ما هي اللغة التي تحلمون بها؟ إذا كنتم تتحدثون بأكثر من لغة واحدة، فأية واحدة منها تمثل الإعداد الافتراضي لعقلكم في حالة فقدان الوعي عند الخلود للنوم؟ فعندما نحلم فإننا نخلق عالمنا التخيلي الخاص بنا. وفي هذا الوضع المثالي، فإن اللغة التي تتحدثونها هي اللغة التي تتواصلون بها أكثر من غيرها. لقد لاحظت بعد أن عشت عدة أعوام في كينيا أنه على الرغم من أنني أتحدث السواحيلية مع السكان المحليين، وبينما كنت لاأزال أتعلم الإنكليزية، عندما لجأت إلى النوم، حلمت بلغتي الأم، الكينيارواندا. كما أتذكر أنه كلما وقعت أنا وأشقائي في ورطة، تتحول أمي، مثل المذياع المضبوط بدقة، إلى لغتنا الأمم لتستخدمها في عتابنا. وتكشف الأبحاث المتعلقة بتعلم اللغة أن الناس يفكرون في الأشياء الأكثر أهمية بلغتهم الأم. فعندما يرتبط الناس

بثقافتهم ولغتهم، فإنهم يعززون هويتهم ويطورون مرتبة أعلى من التفكير. أعتقد أن ذلك يمنح الشخص أيضاً شعوراً بوجود الهدف.

اليوم، هناك 65,3 ملايين نازح في العالم. وقد وجد هؤلاء الأشخاص أنفسهم في وضع لا يمكن أن يختاره أحد. لا أحد يشعر بالبعد عن موطنه أكثر منهم، فإنهم يمشون على أرض أجنبية مسكونة بشعوب أجنبية تتحدث لغة أجنبية. لقد وضعوا جانباً لغتهم الأم واستبدلوها بأخرى من أجل البقاء. عندما تبحث عن كلمة "خائف" في القاموس، فإن المترادفات التي ستظهر هي مزعور، وقلق، ومجهد، وخائف، ومرعوب. ويعرف غوغل كلمة "خائف" بأنها "الشعور بالقلق أو الخوف من حدوث شيء سيئ أو غير سار". إن النازحين في عالمنا بالتأكيد يشعرون بالتخوف من حاضرهم ومستقبلهم.

عندما أدرك توماس مان أنه لن يتمكن من العودة إلى وطنه، فقد علم أن التغيير قادم لا محاله. وقد أدرك أنه يتعين عليه التأقلم مع سياق آخر، وثقافة أخرى، ولغة أخرى. إن فكرة التخلي عن كل ما كان يعرفه أصابته بالرعب. ولم يكن قادراً على استيعاب كيف سيتمكن من الابتعاد عن ثقافته وخيانة لغته.

إن أكبر تحد يواجهه اللاجئون هو التحدي الذي لا يتوقف معظم الناس عن التفكير فيه. إن مستوى التغيير الذي يتعين على الجموع المنسية أن تتحمله هو أمر مذهل. إن التحلي بالقوة ليس خياراً. فهم لا يستطيعون توجيه أنفسهم إلى مكان تواجدهم لأن رحلتهم لم تكن أبداً مخططة منذ البداية. لا توجد وقاية من الصدمة الثقافية. فأنت لا تحمل معك الكلمات الأساسية لاستخدامها في تقديم التحيات أو عند السؤال عن الاتجاهات. إنك تشعر وكأنك قد دفعت إلى مياه ضبابية، وحيداً، جريحاً، مع وجود شريط لاصق فوق شفتيك. لا يمكنك حتى أن تخبئ رأسك لأن الواقع قاسٍ بدرجة لا ترحم.

وبمجرد إخراجهم من منازلهم، بعيداً عن كل ما هو مألوف، وبعد أن فقدوا كل ما يملكونه، يناضل اللاجئون من أجل إيجاد أي نوع من الارتباط مع وطنهم الأم. إنهم يتمسكون بذكريات أحبائهم الراحلين وأجدادهم، من خلال اللغة والثقافة. فعندما يتغير كل شيء من حولهم، لا يمكن للاجئين إلا أن يدعوا أن تظل قلوبهم وفية لروحهم الحقيقية. ألا تكفي الخسارة المادية؟ هل يتعين عليهم أن يخسروا أنفسهم وهويتهم كذلك؟ لا ينبغي لأحد أن يقوم بذلك. إن الحفاظ على الثقافة ما هو إلا أمر ضروري لبقاء جميع المجتمعات. فعندما نتعلم أن نقدر تنوع وثراء الثقافات المختلفة من حولنا، سوف نتمكن من تقدير الناس أنفسهم وفهمهم. سنكون أكثر إنسانية وأكثر قدرة على الاعتراف بأن دوام الحال من المحال.

لقد قال ألبرت أينشتاين إن "السياسة للحاضر. والمعادلة للأبدية". ومن أجل الإنسانية، يجب أن نحافظ على روح ضحايا السياسة هؤلاء. فقد يكونون أعظم القادة الذين لم يعرفهم العالم بعد. فقد يكتبون مجرد معادلة تستمر إلى الأبد   ويتذكرهم الناس بها، بدلاً من حالة انعدام الجنسية التي يُعرَفون بها. قد أكون لاجئة الآن ولكن يوماً ما عندما ينطق الناس اسمي، سيكون بسبب التغيير الذي قمت به أو التقدم الذي ناضلت من أجل الحصول علي. إن ثقافتي لا تكسرني، إنها تصنعني.

 ملاحظات

1توماس مان، "خطاب إلى ألْبِرْت أينْشتاين"، 15 أيار/ مايو، 1933، في كتاب توماس مان، “Briefe 1889 – 1936”، إيريكا مان (Frankfurt am Main: S. Fisher, 1961) ص. 331 والصفحات التالية.

 

وقائع الأمم المتحدة ليست سجلاً رسمياً. إنها تتشرف باستضافة كبار مسؤولي الأمم المتحدة وكذلك المساهمين البارزين من خارج منظومة الأمم المتحدة الذين لا تعبر آراءهم بالضرورة عن آراء الأمم المتحدة. وبالمثل، الحدود والأسماء المعروضة والتسميات المستخدمة في الخرائط أو المقالات، لا تعني بالضرورة موافقة أو قبول من قِبل الأمم المتحدة.