قصص إنسانية

حطام

الليلة التي انقلب فيها عالم القائمين على إدارة شريان الحياة
في شمال غرب سورية رأسًا على عقب

 

في 6 فبراير/شباط، تسبّب زلزالان هائلان في موت الآلاف ودمار واسع النطاق في تركيا وسورية.

كان فريق آلية الرصد التابعة للأمم المتحدة الكائن بتركيا في مركز الدمار، وهذا يعني أن العملية التي تم إنشاؤها لمساعدة سكان شمال غرب سورية كانت بحد ذاتها منطقة منكوبة، حيث قتل وجرح الزملاء. كانت الطرق المؤدية إلى مركز إعادة الشحن التابع للأمم المتحدة - حيث يتم تحميل الشاحنات بمساعدات الأمم المتحدة، والتحقق منها ورصدها قبل العبور إلى سورية - غير صالحة للسير.

كان موظفو مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في كلا البلدين من بين ملايين الأشخاص المتضرّرين. وكان جان لوك تانجليه، مدير آلية الرصد، وفريقه من بين هؤلاء الأشخاص. ويصف هنا تجربته مع الزلازل والساعات التي تلتها:

أعمل في هاتاي منذ عام 2014، عندما بدأت الأمم المتحدة في استخدام معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا لإرسال المساعدات الإنسانية إلى سورية، ويعدّ الزملاء والشركاء هم بمثابة الأسرة الأوسع بالنسبة لي.

كنا في أنطاكيا في الليلة السابقة للزلزال، حيث أجرينا عملية في الصباح الباكر ليوم 6 فبراير/شباط، عند المعبر الحدودي. كنت مستيقظًا عندما بدأ يهتز السرير والأثاث في غرفتي بالفندق برفق، لكن الهزة أصبحت عنيفة في ثوان وكان الجبس يتساقط من السقف، وبدت الجدران متموجة.

سمعت دمدمة رهيبة مدوية وساحقة قادمة من جميع الجهات. وما زلت أسمع الدوي - إنه صوت مظلم مكتوم يأتي من الأرض، وشعرت وقتها كأنني في صندوق تهزّه يد غير مرئية بعنف. هل تكون لحظتي الأخيرة قد حانت؟ لا، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك، سوف أتجاوز كل ذلك وسيكون الأمر على ما يرام.

صورة
منظر للفندق الذي كان يقيم فيه جان لوك وأربعة من زملائه بعد الزلزال. ©Jean-Luc Tonglet/OCHA

عندما فتحت باب غرفة نومي، كان الغبار يتطاير في الممر، ونصحني جاري بعدم تخطي إطار هذا الباب. لقد أذهلني رباطة جأشه وكأنه شاهد المشهد عشرات المرات. واستمرت الهزة بلا هوادة، ثم توقفت.

أمسكت ببطانية وسترة كانا على السرير وركضت إلى الممر، حيث قابلت زملاء لي على السلم. كنا مذهولين، نبحث عن بعضنا البعض، وساد التعاطف والتضامن والشعور بالتضحية بيننا. وبينما كان كل شيء يتساقط من حولنا، لم نكن نريد أن نترك أحدًا خلف الركب، كانت هذه لحظة عصيبة للغاية.

في النهاية نزلنا السلم، وكثير منا حفاة، يترنحون بين الحطام. أصبح باب الفندق الرئيسي مسدودًا، وانهارت واجهته الأمامية وقد سحقت سيارة كانت متوقفة أمام الباب. أخلينا المبنى من الجانب وانتقلنا إلى نقطة تجمّع في منتصف الشارع.

كان الجو باردًا ومظلمًا والأمطار غزيرة في الخارج، وكانت قطرات المطر الباردة تلامس بشرتي وتجمدت قدماي. لقد كان من المستحيل التعرّف على المباني المجاورة التي بدت وكأنها كوم من الحجارة المطحونة والعوارض الخشبية المقطعة والمعادن.

كنا قلقين بشأن الزملاء الذين يقيمون في الفنادق المجاورة، حيث كانت جميع الطرق تقريبًا مسدودة بأكوام من الحطام، حيث انهارت المباني من جميع الجهات، فضلاً عن أن شبكات الهاتف كانت معطّلة، وباءت محاولاتنا المستمرة للاتصال بالفشل. ومن أجل سلامتنا، انتقلنا إلى حدائق حكومة المقاطعة، بعيدًا عن فندقنا، وسرعان ما انضم إلينا الناجون من الحي. لا أعلم من هم هؤلاء الذين جاءوا بأحذية وملابس وبطانيات ووزعوها علينا. من أين أتى هؤلاء الناس؟ لقد تأثروا بالزلزال مثلنا، فكيف وجدوا الموارد لبدء مساعدة الناس بعد دقائق من وقوع الزلزال؟ كانوا مثل الملائكة.

وتزايدت مخاوفنا بشأن زملائنا في الفنادق الأخرى، فتطوع اثنان منا لإيجاد وسيلة للوصول إلى المكان الذي كانوا يقيمون فيه. وفي تلك الأثناء، كان المطر يتزايد، وكنا نرتعش.

وجاءتنا الأخبار في النهاية، بأن بعض زملائنا المفقودين في أمان، فشعرنا ببعض الراحة؛ لقد انهارت فنادقهم جزئيًا، لكنهم تمكنوا من الخروج، حيث كانوا في نقطة تجمع أخرى مع زملائهم من وكالات الأمم المتحدة الأخرى.

مشينا إلى تلك النقطة لنكون جميعًا معًا، ولكن المسيرة كانت صعبة على طول نهر العاصي، حيث انهارت معظم المباني على الطريق وكان علينا أن نسير بين الحطام، ونتخطى العديد من العوائق، مدركين أنه من المحتمل جدًا أن يكون الناس محاصرين تحتها. لم يكن هناك شيء يمكن أن نفعله لهم بأيدينا العارية، ولا أجد كلمة يمكن أن تعبّر عما كنا نشعر به في تلك اللحظة.

صورة
الفندق الذي كان يقيم فيه زملاء آخرون من الأمم المتحدة. ©Jean-Luc Tonglet/OCHA

التقينا في النهاية بزملائنا بالقرب من الجسر الرئيسي في وسط المدينة، كنا سعداء جدًا لرؤيتهم، وكانت هذه نعمة في حد ذاتها. لكن أحد زملائنا، "كورسات"، كان مازال مفقودًا، فضلاً عن زملاء آخرين من الوكالات الشقيقة.

مشيت أنا وزميلي إلى فندق "كورسات"، بعيدًا عن مكاننا؛ لن أنسى المشهد أبدًا، حيث كان الناجون يتجمعون من مختلف الأماكن على طول الطريق، ويشعلون النيران ويحاولون حماية أنفسهم من المطر. صُدمنا عندما رأينا فندق "كورسات"، وقد انهار المبنى والمباني المجاورة بالكامل وتحولت إلى أكوام من الحطام، حيث أصبح من الصعب تذكّر أين كان الفندق بالضبط.

اتصلنا "بكورسات" عدة مرات ولكن دون جدوى، وكان بعض الناس يصرخون من فوق الأنقاض، طلبًا للمساعدة، لكن الدنيا مازالت مظلمة ولم يكن بوسعنا فعل أي شيء في ذلك الوقت، فعدنا إلى المجموعة.

وفي غضون ذلك الوقت، تمكن سائقونا من استعادة بعض مركباتنا غير التالفة، فشعرنا وقتها بارتياح كبير، حيث كانت الأمطار تغمرنا، وكانت المركبات بمثابة ملاذًا دافئًا مؤقتًا. كان الزملاء يخرجون بأفكار وتوصيات بشأن الخطوات التالية، وكانت القيادة المنبثقة من الفريق مشجّعة، حيث كشف الزملاء عن إمكاناتهم الحقيقية في ذلك اليوم.

ثم طلع النهار ورأينا المدى الكامل للضرر، كان الأمر مروعًا، حيث لم يكن هناك سوى بعض المبانٍ التي ما زالت بالكاد قائمة، كما تدمّرت بعض الأماكن التي كانت تنبض بالحياة، بالكامل، وحضرني على الفور صور هيروشيما بعد الانفجار النووي.

وبعد تنسيق إخلاء جزء من الفريق إلى غازي عنتاب، عدت مع اثنين من زملائي إلى فندق "كورسات"، لمعرفة ما إذا كان بإمكاننا العثور عليه، لم نكن نريد أن نتخلف عنه، وأخبرنا أحدهم أن عددًا قليلاً من الناجين نُقلوا إلى المستشفى وكان من بينهم "كورسات".

ذهبنا للبحث عنه في المستشفى الحكومي حيث كان يتدفق الآلاف من الجرحى وعائلاتهم، حينئذ شعرت وكأني دخلت جحيم دانتي، فلم تكن هناك مساحة كافية لجميع الجرحى وكانوا يرقدون في الخارج تحت المطر يتجمدون. كان الموظفون مرتبكين تمامًا، حيث تم نقل الجثث بجانب الأحياء، لقد كان كابوسًا. ومع الأسف، لم يكن "كورسات" هناك ولم نكن نعرف أين ذهب.

وبينما كنا على وشك مغادرة المستشفى، تلقيت مكالمة من عائلة "كورسات" في غازي عنتاب، وأخبرونا بأنه تمكّن من الاتصال بهم وأنه قد تلقى الإسعافات الأولية في وحدة الطوارئ وتم إطلاق سراحه للتو.

انتهى بنا الأمر إلى العثور عليه بالقرب من الملعب وكان ظهره يؤلمه جدًا وبذراعه جرح مفتوح تم تضميده بأسرع طريقة ممكنة حيث بدا الأمر وكأنه جرح حرب؛ ستظل هذه الندبة للأبد. لقد انهارت غرفته في الفندق بينما كان هو في الداخل، وسُحِب إلى أسفل مع الجدران الخارجية، حيث انزلق طابقين وانتهى به الأمر مغطى بالركام. وبينما كانت الهزات مستمرة، ساعده أحدهم على الوصول إلى بر الأمان، إنها حقًا معجزة أنه مازال على قيد الحياة!

صورة
جان لوك (على اليمين) وزملائه وقد عادوا إلى العمل.

كان الليل يقترب، وكنا بحاجة للعودة إلى غازي عنتاب، فقد كنا قلقين بشأن مصير العديد من زملائنا في الأمم المتحدة الذين كانوا يعيشون في أنطاكيا ومن بينهم ليفينت، وهو زميل من مجموعة عمل الخدمات اللوجيستية، وكان يدير مركز إعادة الشحن التابع للأمم المتحدة. كان ليفنت قريبًا جدًا منا، وعلمنا بعد ذلك أنه توفي عندما انهار محل إقامته، كما فقدنا العديد من موظفي الجمارك التركية.

وخلال العودة إلى غازي عنتاب، رأينا الكثير من الأضرار على طول الطريق، وكانت امتدادات الطرق غير صالحة للمرور، فكان علينا إيجاد طرقًا بديلة. لقد انفطر قلبي لرؤية كل هذا الدمار، لكنني رأيت الناس يعملون بجد، وكانت المنطقة مزدهرة. يُشكل الزلازل نكسة كبيرة لأنطاكيا ومنطقتها.

بعد أيام قليلة من وقوع الزلازل، عاد جان لوك وفريقه إلى هاتاي لتسهيل مرور مساعدات الأمم المتحدة عبر باب الهوى، حيث استأنفت الأمم المتحدة عمليات توصيل المساعدات عبر الحدود بعد ثلاثة أيام من وقوع الزلزال، اعتبارًا من 9 فبراير/شباط. واجتمع فريق الأمم المتحدة في ذلك اليوم لتذكّر ليفنت والزملاء الذين فقدوا في الزلازل. ومنذ ذلك الحين، عبرت قرابة ألف شاحنة إلى شمال غرب سورية محملة بالمساعدات التي قدمتها سبع وكالات تابعة للأمم المتحدة.