5 نيسان/أبريل 2016

               أوضحت خطة التنمية المستدامة لعام 2030، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع في أيلول/سبتمبر 2015، أن هدفها المنشود هو تحويل العالم. ويشير الإعلان عن حق إلى أنه ”لا سبيل إلى تحقيق التنمية المستدامة دون سلام، ولا إلى إرساء السلام دون تنمية مستدامة“؛ ويجب ألا تقلل واقعة أن هذا الهدف يحمل رقم 16 من أصل 17 هدفا، هي أهداف التنمية المستدامة، من أهمية تحول البلدان المعرضة للنزاعات إلى دول مسالمة ومشاركتها في تحقيق التنمية المستدامة.

         وتدعم الأمم المتحدة اليوم أكثر من 16 عملية لحفظ السلام و 11 بعثة سياسية خاصة وعملية لبناء السلام([i]). وكثير من البلدان التي تتلقى الدعم من الأمم المتحدة من البلدان المدرجة في قائمة مجموعة الدول الهشة السبع الموسعة، التي تضم الآن 20 بلدا، وهي بلدان تسعى إلى التغلب على عدم الاستقرار والخروج من فخ النزاعات والإفلات من براثن الفقر([ii]). إلا أن كثيرا منها يتزعّمه قادة يتمسكون بالسلطة والثروة على حساب وحدة بلدانهم ورفاه شعوبها. وقد كشفت لي معاملاتي الشخصية مع قادة بعض البلدان المعرضة للنزاعات عن أن عمليات الإنعاش والتنمية بعد انتهاء النزاع مرتهنة بالقيادات الوطنية أكثر منها بالمؤسسات، التي قد لا تكون لدى الشعوب معرفة وثيقة بها.

         وقد عملت الأمم المتحدة على تحقيق السلام والاستقرار بشكل مستدام في البلدان الخارجة من النزاعات من خلال قبول واتباع الفلسفة السياسية والأخلاقية التي وضعها جون رولز في عام 1971([iii]) بشكل أساسي. وأصبحت الديمقراطية الليبرالية وسيادة القانون، إضافة إلى حماية حقوق الإنسان، من مرتكزات نظم الحكم. وكتِبت الدساتير وأنشئت مؤسسات الحكم الرسمية بهدف تحقيق العدالة في المجتمع. ولا شك في أن بناء القدرات المؤسسية للحكم الديمقراطي شيء مستحب لأغراض صون السلم والاستقرار في الأجل الطويل، لكن تنشأ ضرورة أكثر إلحاحا في أعقاب النزاعات مباشرة، وهي التأثير على القيادات الوطنية وتغيير مفاهيمها بحيث تلتزم بكفالة الوحدة وتحقيق المصالح على الصعيد الوطني.

         وقد عمَّدْت في هذه المقالة إلى تحديد صفات قيادية معينة باعتبار أنها تسهم في بناء السلام في أعقاب النزاعات وخلال فترة الانتقال بعد انتهاء النزاع من مرحلة بناء السلام إلى تحقيق التنمية المستدامة.

         وتتمثل المهمة الحيوية للقيادات الوطنية في المرحلة التي تعقب النزاع مباشرة في تحقيق التوازن بين الحاجة إلى ترسيخ الاستقرار السياسي، حسب الاقتضاء، وبين متطلبات حكم بلدانهم، من خلال التأثير على فكر وسلوك خصومهم وأتباعهم على حد سواء. ويتطلب ذلك التحلي بصفات القيادة الحازمة والاستعداد لتقبل واقع تباين المصالح وتقاسم التطلعات. ولعل الطريق المضمون لبناء مجتمع قائم على سيادة القانون هو اتباع القادة الطريق القويم ومراعاة الانضباط في سلوكهم وتصرفاتهم الشخصية، عوضا من استخدام السلطة والقوة للتشبث بكراسي الحكم.

         وقد رأيت، في سياق المهام التي كلفتني بها الأمم المتحدة في عدة بلدان في إطار دعم السلام والتنمية، كيف كان قادة تيمور - ليشتي يمارسون مهام القيادة على النحو الواجب وينجحون في توطيد السلام في أعقاب النزاع المسلح مع قوة الاحتلال الإندونيسية أولا، ثم بسبب الصراعات الداخلية على السلطة. وقد وعى قادة تيمور - ليشتي الدروس المستفادة من أزمات الأمن السياسي التي نشبت في عامي 2006 و 2008، وحققوا الوحدة الوطنية وكفلوا انتقال السلطة سلميا، من خلال ممارستهم لما أسميه أنا ”واجبات القيادة الأساسية“، وهي ذات خمس خواص([iv]).

         والخاصية الأولى هي التزام القادة بخدمة المصالح الوطنية، وصون هوية ووحدة الوطن. وتشكل العداوات والمنافسة الشخصية الأسباب الرئيسية للنزاعات المسلحة والصراعات في البلدان المعرضة للتأثر. ويتحتم على القادة الوطنيين ممارسة الانضباط الذاتي ووضع مصالح الوطن ووحدته فوق مآربهم شخصية. والخاصية الثانية هي قدرتهم على دمج المثل العليا والمبادئ العالمية للحكم في قيم وأعراف المجتمعات المحلية. والثالثة هي اتسام قيادتهم بالشجاعة والتعاطف، وقدرتهم على التواصل مع أتباعهم وإقناعهم وعامة السكان بفعالية اتبّاع الرؤى الشاملة وتكييف المثُل العالمية لتتوافق مع المعايير الأخلاقية المحلية. وخاصية القيادة الرابعة هي القدرة على تحقيق التوازن بين ضرورة اتخاذ إجراءات بشأن مظالم وجرائم العهود السابقة وبين ميزات السعي إلى المستقبل. والخاصية الأخيرة والأهم هي القدرة على تغيير عقليات الناس وطرائق تفكيرهم من أجل تحقيق السلام الدائم والتنمية المستدامة.

         وتستند هذه الخواص الخمس للقيادة إلى مثُل أخلاقية ظل الناس يدعون إليها على مدى قرون في الشرق والغرب معا. ويؤكد كونفوشيوس في ”مختارات أقواله المأثورة“ على أهمية مراعاة الأخلاق في السلوك على الصعيدين الشخصي والحكومي([v]). وتشدد تعاليمه على سمو المثل الشخصية على القوانين الوضعية وعلى أهمية التوصل إلى قرارات حكيمة عوضا عن إجادة معرفة القوانين. ويشير مفهوم ”يي“ (義) إلى سمات العدل والاعتدال أو تطبيق العدل وفعل الأشياء الصحيحة([vi]). ويتعارض مفهوم هذا المصطلح مع التصرف من منطلق المصلحة الذاتية. ومع أن خدمة المصلحة الذاتية ليست ممارسة سيئة بالضرورة، فإنه يتعين على القادة تعزيز الصالح العام للمجتمع بأسره. وفي الغرب، أوضح أفلاطون في الجمهورية الفاضلة أن صفات الاستقامة في القادة تقابلها سمات مشابهة وهامة لكفالة الأداء السليم على مستوى الدولة. ولا يمكن إقامة دولة مثالية إلا إذا اتسم قادتها بالاستقامة وموظفوها بالمهارة. وانحاز أفلاطون في نهاية المطاف إلى خيار الديمقراطية النيابية وسيادة القانون باعتباره ثاني أفضل شكل من أشكال الحكم القائم على السلطة السيادية المستندة إلى الشعب.

         وفي البلدان المعرضة للنزاعات والبلدان الخارجة من نزاعات يستغرق إعداد أطر سيادة القانون والأطر المؤسسية الأخرى للحكم الديمقراطي في هيئتها الكاملة فترة من الزمن. ويتمثل أهم المتطلبات في المشاركة النشطة من قبل القادة الوطنيين والمحليين، الذين يستطيعون إعادة الإحساس بالكرامة إلى السكان المحليين عن طريق التقيد بالمعايير العالمية لأنماط الحكم بعد تكييفها لتتسق مع المعايير المحلية. ومن الضروري البحث عن مثل هؤلاء القادة الملتزمين بمبادئ الحكم الأساسية في البلدان الخارجة من نزاعات ودعمهم، إلى حين تأسيس آليات سيادة القانون والآلات المؤسسية الأخرى وقبولها بشكل كامل لدى السكان والمجتمع بأسره. وأعتقد أن هذا النهج أكثر فعالية من التركيز المفرط للجهود على بناء الهياكل ووضع الإجراءات المؤسسية مع قِلّة الاهتمام بالقيم والتقاليد والعادات المحلية. ومن شأنه أيضا أن يعزز الميزات الأخلاقية والمهنية لقادة ومديري مؤسسات الحكم المحلي ويحسّن الشفافية والمُساءَلة. ويجب أن يتسم الحكم عقب انتهاء النزاعات بصفات القيادة المنضبطة وأن تُرفع معايير القيم الأدبية والأخلاقية بغرض الحد من رغبة الحكام في إطالة أمد بقائهم في السلطة. فالمهمة الأساسية لقادة البلدان الخارجة من النزاعات هي الإعداد لانتقال سلطتهم بسلاسة إلى من يخلفهم.

         وتجدر الإشارة إلى أن زعماء تيمور - ليشتي تعاونوا في العمل على إنهاء الأزمات الأمنية التي نشبت في عامي 2006 و 2008 حين آثروا المصلحة الوطنية على مكاسبهم الشخصية والمصالح الفئوية. وحين أدى التنافس الشخصي إلى نشوب نزاع مسلح وصراع، مارس الزعماء البارزون ضبط النفس وأقنعوا أتباعهم بالحفاظ على وحدة الوطن وحماية المصالح الوطنية على حساب المصالح الفئوية. وعلى الرغم من الضغوط الخارجية من أجل تطبيق العدالة الجزائية وتوجيه الاتهامات إلى قادة إندونيسيا العسكريين، فضل زعماء تيمور - ليشتي العدالة التصالحية وطريق المصالحة والصداقة، على أساس تغليب الحقائق([vii]). وعندما انزلق البلد إلى الفوضى، في عام 2006، تغاضى أولئك الزعماء عن عداواتهم الشخصية وطلبوا سويا دعم الأمم المتحدة ونشر قوات دولية لتحقيق الاستقرار والحيلولة دون ارتداد البلد إلى الحرب الأهلية.

         ونجح زعماء تيمور - ليشتي في إدماج المثل والمبادئ العالمية للحكم في الأعراف والممارسات المحلية دون إخلال باستقرار المجتمع. وأدركوا أهمية الاتصال بأتباعهم وبالجمهور وإقناعهم بتغيير عقلياتهم وطرائق تفكيرهم من أجل تحقيق السلام الدائم والتنمية المستدامة. ولتيسير حدوث التغيير اللازم، أظهر أولئك الزعماء التزامهم بمبدأ الحكم الديمقراطي، وبخاصة حق السكان في اختيار قياداتهم من خلال العمليات الانتخابية. وأظهروا ما يكفي من ضبط النفس والشجاعة لاحترام نتائج الانتخابات، التي لم يثبت أنها حرة ونزيهة فحسب، بل وذات مصداقية أيضا.

         وبينما أفلح زعماء تيمور - ليشتي في بناء السلام والاستقرار في بلدهم، إلا أنهم واجهوا تحديا جديدا في مجال نقل السلطة إلى قيادات شابة وتحقيق التنمية المستدامة. وهو تحد من نوع مختلف ونابع عن ضرورة نقل السلطة ومسؤولية الحكم إلى قيادات شابة. ومن الأشياء ذات الدلالة أن زنانا غوسماو، زعيم حركة الاستقلال الذي تولى قيادة البلد من خلال منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، قد سلم منصب رئيس الوزراء إلى شخص أصغر سنا، هو روي أراوجو، أحد التكنوقراطيين في مجال الشؤون الصحية وعضو حزب الجبهة الثورية لتيمور - ليشتي المستقلة([viii])، في شباط/فبراير 2015، قبل سنتين من موعد انتهاء ولايته. ويقف تشكيل الحكومة من القياديين الأصغر سنا من فئة المهنيين، بمن فيهم قياديون من الحزب السياسي المعارض، دليلا على ممارسة زانانا غوسماو لضبط النفس والالتزام بنقل السلطة سلميا.

         ويواجه زعماء دولة تيمور - ليشتي التي نشأت عقب انتهاء النزاع تحديا كبيرا آخر الآن في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. وقد حققت تيمور - ليشتي تقدما اقتصاديا واجتماعيا كبيرا باستخدام الموارد المالية لصندوق النفط، الذي أنشئ منذ عام 2005 لتنظيم حسابات الإيرادات المتأتية من استغلال الغاز الطبيعي بطريقة شفافة وقابلة للمساءلة، وفق ما أقر به البنك الدولي([ix]). وشملت الإنجازات تحقيق نمو اقتصادي وصل بالبلد إلى الحدود الدنيا لمركز الدخل المتوسط في عام 2011، وتحقيق مكاسب كبيرة في مجال تحسين أحوال التعليم والصحة، بما في ذلك خفض معدلات وفيات الرضع والأطفال إلى النصف تقريبا. بيد أن التقدم الاقتصادي والاجتماعي يعتمد بالكامل تقريبا على ارتفاع أسعار النفط العالمية الذي استمر حتى وقت قريب. ونظرا إلى أن أسعار النفط العالمية آخذة في الانخفاض بسرعة الآن، يتحتم على زعماء تيمور - ليشتي تنويع الاقتصاد وإيجاد فرص عمالة جديدة، وبخاصة عمالة الشباب؛ علما بأن سهولة توافر الموارد المالية من عائدات الغاز الطبيعي أسهمت في ارتفاع معدلات الفساد أيضا. ويتطلب ذلك أن تكون قيادة الحكومة قادرة لا على تعزيز القدرات البشرية والمؤسسية وإيجاد فرص العمالة في القطاع غير النفطي فحسب، بل وأن تستطيع أيضا خفض ممارسات الفساد والتآمر والمحسوبية([x])، خاصة وقد اعتمد البرلمان الوطني أهداف التنمية المستدامة([xi]).

         وفي الختام، أرى أن قادة البلدان الخارجة من النزاعات يواجهون ثلاثة تحديات رئيسية: أولا، بناء مجتمعات مسالمة ومستقرة وعادلة وشاملة للجميع؛ ثانيا، بناء قوة عاملة ماهرة ومؤسسات قوية وتتسم بالشفافية والمُساءَلة والفعالية؛ وثالثا، تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي يوفر لجميع السكان فرص متساوية للوصول إلى العدالة والحصول على التعليم والصحة والعمالة. ولكي يحدث هذا، يجب أن تتغير عقلية وطريقة تفكير القادة والمواطنين معا في البلدان الخارجة من النزاعات. ويجب على الأمم المتحدة أن تفعل المزيد للمساعدة في هذه العملية.

 

الحواش

     ([i]) يبلغ عدد بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام 16 بعثة، والبعثات السياسية الخاصة وبعثات بناء السلام 11 بعثة. انظر الرابط: http://www.un.org/en/peace­ keeping/operations/current.shtml والرابط http://www.un.org/peacekeep­ing/documents/ppbm.pdf جرى الدخول إلى الموقع في 23 شباط/فبراير 2016.

    ([ii]) مجموعة الدول الهشة السبع الموسعة رابطة طوعية تضم بلدان متأثرة بالنزاعات أو تأثرت بها من قبل وتشهد الآن عملية الانتقال إلى المرحلة الإنمائية التالية. وتعمل المجموعة التي تتألف الآن من 20 بلدا على تعزيز آليات التخطيط التي تملكها والتي تقودها البلدان، وتوصي بإجراء تغييرات كبرى في طريقة تعامل الشركاء الدوليين مع البيئات المتضررة من النزاعات. للحصول على مزيد من المعلومات، انظر الموقع الشبكي: http:// www.g7plus.org/en/who-we-are. Accessed 18 January 2016.

   ([iii]) John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge, Massachusetts, Harvard University Press, 1999). This is a reissue of the first edition published in 1971.

    ([iv]) Sukehiro Hasegawa, Primordial Leadership: Peacebuilding and National Ownership in Timor-Leste (Tokyo, New York, United Nations University Press, 2013), pp. 275 - 276.

    ([v]) مجموعة الأقوال المأثورة (論 語) عبارة عن مجموعة من الأفكار والأقوال المنسوبة إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس ومعاصريه، ويعتقد في العادة أنها كتبت على يد أتباع كونفوشيوس.

    ([vi]) تعني لفظة يي (義) أو (正 義) “العدل والبر والجوهر” في المفاهيم الكونفوشيوسية.

   ([vii]) أنشأت إدارة الأمم المتحدة الانتقالية في تيمور الشرقية لجنة تيمور - ليشتي للاستقبال والحقيقة والمصالحة في عام 2001. وكلِفت اللجنة بتقصي الحقائق بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، والسعي إلى تحقيق عملية المصالحة الرامية إلى استعادة الكرامة الإنسانية للضحايا. هسيغاوا، ص 163.

  ([viii]) تشكل الأحرف الثلاثة الاسم المختصر للحزب السياسَّي المسمى الجبهة الثورية لتيمور - ليشتي المستقلة.

    ([ix]) World Bank. ''Overview", 06 October 2015.  متاح على الرابط: http://www.worldbank.org/en/country/timor-leste/overview.

    ([x]) ترمز الأحرف الثلاثة إلى والفساد والتآمر والمحسوبية.

    ([xi]) تجدر الإشارة إلى أن برلمان تيمور - ليشتي قد اتخذ إجراء بالفعل في هذا الصدد حين اعتمد قرار في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 (Resoluçao do Parlamento Nacional No. 19/2015) بشأن تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030.

 

 

وقائع الأمم المتحدة ليست سجلاً رسمياً. إنها تتشرف باستضافة كبار مسؤولي الأمم المتحدة وكذلك المساهمين البارزين من خارج منظومة الأمم المتحدة الذين لا تعبر آراءهم بالضرورة عن آراء الأمم المتحدة. وبالمثل، الحدود والأسماء المعروضة والتسميات المستخدمة في الخرائط أو المقالات، لا تعني بالضرورة موافقة أو قبول من قِبل الأمم المتحدة.