7 شباط/فبراير 2017

 

        بالنسبة للعديد من الناس في جميع أنحاء العالم، يستحيل ببساطة تصور الحياة دون إمكانية الحصول بسهولة على مياه الشرب المأمونة أو استخدام مرحاض، غير أن الافتقار إلى هذين السببين الأساسيين للراحة لا يزال حقيقة في حياة الكثيرين في بلدان الجنوب. وصحيح أنه تم تحقيق تغيير نتج عنه تحول في توفير الخدمات الأساسية في بعض البلدان على مدى السنوات الـ 15 الماضية، لكن لا يزال ملايين من الناس محرومين من إمكانية الحصول على خدمات المياه والصرف الصحي.

         وفي البلدات والمدن، ما فتئ مقدمو الخدمات المحليون يسعون جاهدين إلى مواكبة النمو السكاني غير المسبوق. وما فتئت المناقشات بشأن أهداف التنمية المستدامة تعكس الحاجة الملحة إلى تركيز الاهتمام أكثر على احتياجات سكان المناطق الحضرية المنخفضة الدخل. ففي الفترة بين عامي 2010 و 2050، يتوقع أن يرتفع عدد سكان المناطق الحضرية في أفريقيا من 400 مليون نسمة إلى 1.26 بليون نسمة، كما يتوقع أنه بحلول عام 2035، سيعيش نصف مجموع سكان القارة في المناطق الحضرية. ولن يكون لكثير من الناس الذين يهاجرون إلى هذه المناطق أي خيار سوى الانتقال إلى المجتمعات المحلية المنخفضة الدخل التي تفتقر إلى إمكانية الحصول على أبسط الخدمات الأساسية.

         وأثناء الاضطلاع بدوري كمديرة لبرنامج قطري تابع للشراكة من أجل توفير خدمات المياه والصرف الصحي للفقراء في المناطق الحضرية (WSUP)، رأيت عِيانا حجم التحدي في مدغشقر، بلدي الأصلي. ومدغشقر من بين أفقر البلدان في أفريقيا، ولها أحد أعلى معدلات الفقر المدقع في العالم. فوفقا للبنك الدولي، تعيش نسبة 92 في المائة من السكان بأقل من دولارين في اليوم.

         وفي جميع أنحاء البلد، يستفيد حوالي 50 في المائة من السكان من إمكانية الوصول إلى مصدر محسن للمياه. ومن المؤكد أن إمكانية الوصول إلى هذا المصدر أعلى في المناطق الحضرية، ولكن ذلك يخفي حقيقة أن العديد من سكان المدن يضطرون إلى قطع مسافات طويلة أو الوقوف في الصف لساعات من أجل شراء المياه. وأمام هذا الخيار، ليس من المستغرب أن يستخدم العديد من سكان المناطق الحضرية في نهاية المطاف مصادر المياه الملوثة التي هي أقرب إلى البيت، مخاطرين بصحتهم وصحة أسرهم.

         وفي كل شهر، يزداد عدد سكان المناطق الحضرية في مدغشقر بـ 000 33 فرد. وبما أن السكان أصبحوا يستقرون بشكل متزايد في المدن، سيتحول التركيز في تحدي توفير المياه وخدمات الصرف الصحي والنظافة الصحية للجميع تدريجيا عن احتياجات المناطق الريفية نحو حل مشاكل المناطق الحضرية.

         وانضممتُ إلى الشراكة من أجل توفير خدمات المياه والصرف الصحي للفقراء في المناطق الحضرية في عام 2007 في بداية برنامجنا في مدغشقر، الذي كان في ذلك الوقت يركز كليا على العاصمة، أنتاناناريفو (تانا). وعلى غرار العديد من عواصم بلدان الجنوب، شهدت تانا نموا هائلا للسكان على مدى العقد الماضي، وتعيش أغلبية المقيمين الجدد فيها في المجتمعات المحلية المنخفضة الدخل. وفي عام 2006، كانت خدمات المياه والصرف الصحي المقدمة إلى هذه المجتمعات المحلية غير كافية. وكانت الشركة الوطنية لخدمات المياه والكهرباء، جيراما (JIRAMA)، ملتزمة بتحسين حالة الإمداد بالمياه، ولكنها كانت تفتقر إلى القدرة على القيام بذلك دون مساعدة خارجية.

         وكانت لنا، في الشراكة من أجل توفير خدمات المياه والصرف الصحي للفقراء في المناطق الحضرية، قناعة - ولا تزال - بأن تقديم الخدمات على نطاق واسع لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مقدمي خدمات محليين أقوياء يمتلكون ويديرون عملية تقديم الخدمات على المدى الطويل. وكانت الأولوية بالنسبة لنا هي إقامة علاقة عمل وثيقة مع شركة جيراما، وتعزيز قدراتها وإظهار ما هو ممكن. وبدأت الشراكة معها بمشروع تجريبي لبناء 17 كشكا للمياه وتطورت تطورا هائلا. ومنذ عام 2010 فقط، قامت شركة جيراما بتوفير 500 توصيلة مياه جديدة من أجل المجتمعات المحلية المنخفضة الدخل في تانا. وتدير البنية التحتية جمعيات تقودها المجتمعات المحلية، وتشتري هذه الجمعيات المياه من شركة جيراما وتعيد بيعها إلى العملاء بأسعار معقولة.

         وأدى البدء في عملية إمداد بالمياه بطريقة آمنة يعول عليها إلى تحقيق مجموعة واسعة من الفوائد الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك تحسين الصحة، بفضل التقليل من الإصابة بمرض الإسهال، وتوفير المال والوقت بفعل تقليص المسافات المقطوعة لجلب المياه.

         وجيرمين، التي تعيش في جماعة إيتاوزي في تانا، هي واحدة من العملاء الذين يستفيدون من الخدمات الجديدة. ففي السابق، لم يكن أمامها من خيار سوى أن تغلي المياه المأخوذة من بئر قريبة وتعالجها أو تخاطر بصحتها. أما الآن، ومع وجود كشك لبيع المياه النظيفة على بعد عشرة أمتار فقط من منزلها، لم تعد مضطرة إلى رفع الدلاء الثقيلة، كما أن الفوائد الصحية واضحة. وتقول جيرمين: ”حفيدي سعيد الآن لأنه لم يعد يعاني من أوجاع المعدة ويمكنه أن يستخدم مياه الشرب التي تأتي مباشرة من كشك المياه“.

         وما فتئ البرنامج المشترك بين الشراكة من أجل توفير خدمات المياه والصرف الصحي للفقراء في المناطق الحضرية وشركة جيراما يحدث أثرا مباشرا في سبل عيش العديد من النساء. إذ بني ما يزيد على 60 محلا لغسل الملابس موصولة بشبكة توزيع المياه، ويرمي ذلك إلى تحقيق أهداف منها توفير حيز آمن للنساء الممتهنات لغسل الملابس لممارسة عملهن. ووفقا لتقديرات الشراكة، يكسب ممتهنو غسل الملابس - 95 في المائة منهم من النساء - 000 8 أرياري في اليوم أو حوالي 490 دولارا في السنة، وهو ما يفوق بثلاثة أضعاف ما كانوا يكسبونه قبل بناء هذه المحلات.

         واستفاد من هذا البرنامج أيضا العديد من الأعمال التجارية الأخرى. وعلى سبيل المثال، تقول هنتانيرينا راكوتوزاناني إنه نتيجة لكون كشك المياه قريبا جدا من منزلها، أصبح لها الآن الوقت لتطوير مشروع الشمع الذي تملكه. وتقول: ”أصنع الشمع ليستخدم في تلميع بيوت الناس. هذا يساعدنا أنا وزوجي على دفع الرسوم الدراسية لأطفالنا“.

         فما هي إذن الدروس التي استفدناها من هذه التجربة والتي يمكن أن تكون ذات أهمية بالنسبة للبلدان الأخرى؟ أولا وقبل كل شيء، دعَّم توفيرَ هذه الخدمات الجديدة ما تم القيام به داخل شركة جيراما من إصلاحات مؤسسية وتنمية للقدرات. وقد ركزت هذه التحسينات على تعزيز كفاءة استخدام المياه وخفض مستويات المياه المهدورة في تانا. والمياه المهدورة هي كمية المياه التي تنتجها شركة للخدمات العامة ولا تتلقى عنها أي إيرادات بسبب الخسائر المادية (مثل تسرب المياه من الأنابيب) أو الخسائر التجارية (مثل الخطأ في إعداد الفواتير، والقياس الخاطئ للاستهلاك، والتوصيلات غير القانونية). وخفض كمية هذه المياه المهدورة طريقة بالغة الأهمية لزيادة إمدادات المياه للعملاء ذوي الدخل المنخفض. وتساعد كمية تقدر بثلاثة ملايين متر مكعب من المياه توفَّر سنويا بفضل هذا البرنامج المتعلق بالمياه المهدورة - تكفي لملء 200 1 مسبح من الحجم الأولمبي - على تقديم خدمات محسنة إلى العملاء الحاليين وتوسيع نطاق المستفيدين من إمكانية الحصول على المياه ليشمل عدد كبيرا من السكان ذوي الدخل المنخفض.

         ومن المفارقات أن الإصلاحات التي قامت بها شركة جيراما رفع من وتيرتها انهيارُ مبادرة استثمارية كبيرة في مدغشقر على إثر انقلاب سياسي وقع في عام 2009. وبدون مصدر هام للتمويل، كنا محفزين أكثر للعمل مع شركة جيراما لتحديد الوفورات التي يحتمل تحقيقها داخلها والتي ستمكنها من تقديم خدماتها إلى المجتمعات المحلية المنخفضة الدخل. وإلى حد ما، كان ذلك مفيدا لأنه أثبت أن شركات الخدمات العامة قادرة على أن تقوم بنفسها بالحض على التغيير دون استثمارات كبيرة. وتؤكد التجربة اعتقادنا بأن الأنشطة التي نفذتها شركة جيراما يمكن أن تعتمَد باعتبارها ممارسة معيارية لشركات الخدمات العامة الأخرى في المدن في جميع أنحاء بلدان الجنوب.

         ومن المؤسف أننا فشلنا في إحراز تقدم في مجال الصرف الصحي مماثل لما رأينا في مجال الإمداد بالمياه النظيفة، في مدغشقر وفي جميع أنحاء بلدان الجنوب على السواء. فلا يزال هناك عدد من التحديات المشتركة، وسوف يتعين التغلب عليها أولا من أجل البدء في الحديث عن توفير خدمات الصرف الصحي على نطاق واسع. وتتمثل خطوة أولى حاسمة في القيام بتحديد واضح للمؤسسات التي تضطلع بالمسؤولية عن تقديم خدمات الصرف الصحي إلى المناطق الحضرية. ففي مدغشقر، أنشئت وزارة المياه في عام 2008 وأصبحت تعرف باسم وزارة المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في عام 2015؛ كما يوجد إطار قانوني يتعلق بالصرف الصحي ولكنه نادرا ما يطبق. ولا يزال هناك فراغ في القيادة في هذا المجال، مرده جزئيا إلى الالتباس بشأن ما إذا كان الصرف الصحي أساسا شاغلا يتعلق بالبيئة أو التخطيط الحضري. ومع ذلك، هناك وعي متزايد بضرورة تعزيز الإطار المؤسسي للصرف الصحي. وفي تطور إيجابي وقع مؤخرا، تجرى مناقشات لإنشاء هيئة تنظيمية جديدة، على الرغم من أن استحداثها سيستغرق بعض الوقت.

         وثمة صلة بين عدم الوضوح فيما يخص المسؤوليات المتعلقة بالصرف الصحي وافتقارٌ مزمن إلى الاستثمار في تحسين البنية التحتية للصرف الصحي. فلم تكد شبكة الصرف الصحي في تانا تتوسع منذ الحقبة الاستعمارية. وإمكانية الاستفادة منها محدودة جدا في مركز المدينة (حوالي 17 في المائة) وهي غير موجودة عمليا في المناطق المحيطة بالمدينة.

         ويجري العمل على وضع استراتيجية للصرف الصحي على نطاق المدينة من أجل تانا، وحظيت هذه المبادرة بدعم الشراكة من أجل توفير خدمات المياه والصرف الصحي للفقراء في المناطق الحضرية. ويتمثل أحد عناصر الاستراتيجية في زيادة عدد السكان الذين يستفيدون من نظام الصرف الصحي. ويرحَّب بهذه المشاريع، ولكنها ستحقق على المدى الطويل. أما على المدى القصير، لن تكون شبكات الصرف الصحي متاحة لأغلبية السكان في أي وقت قريب. وهذا يعني أن هناك حاجة إلى زيادة التركيز على الصرف الصحي في الموقع، حيث تخزن النفايات الآتية من مرحاض محليا في حفرة أو خزان، ثم يجب بعد ذلك إزالتها والتخلص منها. ولهذا الحل تعقيداته من حيث الإدارة، ولكنه يتيح أيضا فرصا للتنمية الاقتصادية، إذ تستطيع الجهات الفاعلة في القطاع الخاص إدارة مؤسسات تجارية تقوم بجمع النفايات المخزنة ومعالجتها والتخلص منها وتعمل من أجل الربح.

         ويتمثل حاجز رئيسي آخر أمام تحسين البنية التحتية للصرف الصحي لاحظناه في جميع أنحاء بلدان الجنوب في ملكية الأراضي وتوافرها. فعادة ما تكون المناطق الحضرية المنخفضة الدخل مأهولة بشكل كثيف بالسكان وتفتقر إلى الحيز المكاني من أجل مرافق الصرف الصحي المجتمعية و إلى بنية تحتية أكبر مثل محطات نقل النفايات. كما تُنشأ بعض المستوطنات على أراض عامة لا يرخص لاستخدامها للسكن، ويحرَم من يعيش فيها من حقهم القانوني في الخدمات العامة. وفي حالات أخرى، يتحكم في الأراضي مالك قد يطلَب منه أو لا يطلب منه توفير خدمات صرف صحي ملائمة. وفي تانا، المشكلة الرئيسية هي ندرة الأراضي في المنطقة الوسطى من المدينة، حيث تحديد موقع لمرفق مجتمعي للصرف الصحي، على سبيل المثال، يمكن أن يصبح عملية طويلة ومعقدة. ولا يوجد حل سهل، ولكن المشكلة أقل بروزا في المناطق المحيطة بالمدينة.

         وثمة جزء أخير من معادلة الصرف الصحي الصعبة أود أن أبرزه هو تحدي تحفيز الطلب على خدمات أفضل. إذ يستخدم الكثير من الأسر ذات الدخل المنخفض في تانا مراحيض بسيطة ذات حفر، تتطلب منصة إسمنتية للصرف الصحي لجعلها مناسبة للنظافة الصحية. بيد أن معظم الأسر المنخفضة الدخل لا ترى أن تحسين الصرف الصحي استثمار ذو أولوية. ولمواجهة هذا الوضع، نحتاج إلى تشجيع السكان على النظر في زيادة الاستثمار في تحسين الصرف الصحي من خلال التوعية بأسباب أهميته. وهذا ما يتطلب استراتيجية للتسويق. وفي تانا، على سبيل المثال، جربنا الإعلانات التلفزيونية من أجل حفز الاهتمام.

         وبطبيعة الحال، لن يوضع بناء بلاطة من الإسمنت فوق مرحاض ذي حفرة أبدا في أعلى قائمة الأشياء المرغوب فيها التي يتطلع أي مستهلك إلى شرائها. ولن تكون أبدا البلاطة قادرة على التنافس مع التلفزة التي تعمل بواسطة السواتل. ولكن هذا التحدي قريب جدا من اعتقاد أساسي للشراكة من أجل توفير خدمات المياه والصرف الصحي للفقراء في المناطق الحضرية بأننا لن نستطيع أبدا تحسين إمكانية استفادة سكان المدن من خدمات المياه والصرف الصحي ما لم نعتبر السكان ذوي الدخل المنخفض عملاء، ونستحدث منتجات وخدمات يستطيعون ويريدون شراءها واستخدامها.

          وفي الوقت الحالي، تبدو غاية هدف التنمية المستدامة المتعلقة باستفادة الجميع من خدمات الصرف الصحي بعيدة المنال في بلدي وفي العديد من البلدان الأخرى. ولكن قبل عشر سنوات، ما كنت لأتصور أن اليوم سيستفيد 000 700 ساكن إضافي ذي دخل منخفض من الإمداد بالمياه النظيفة في تانا. وبالإمكان تحقيق التحول من خلال التغيير. وفي مدغشقر، أحرزنا بالفعل تقدما كبيرا نحو تحقيق حصول الجميع على المياه النظيفة، ورؤية هذا التقدم تسمح لنا بمواجهة التحديات المقبلة بتفاؤل أكبر. 

 

وقائع الأمم المتحدة ليست سجلاً رسمياً. إنها تتشرف باستضافة كبار مسؤولي الأمم المتحدة وكذلك المساهمين البارزين من خارج منظومة الأمم المتحدة الذين لا تعبر آراءهم بالضرورة عن آراء الأمم المتحدة. وبالمثل، الحدود والأسماء المعروضة والتسميات المستخدمة في الخرائط أو المقالات، لا تعني بالضرورة موافقة أو قبول من قِبل الأمم المتحدة.